الثلاثاء، 31 أغسطس 2010

عن أبي..أحدثكم


هذا الأهلاوي المتعصب ..لازلت أتذكر مراقبتي له وهو يتابع مباراة تحديد بطل الدوري في الموسم الماضي بين الأهلي والاسماعيلي..أذكر أني انشغلت به عن متابعة المباراة نفسها- وكان دائما يفضل مشاهدة المبارايات خارج المنزل- وأتابعه وهو ينفعل ازاء كرة هنا أو هناك..وكنت أنظر إلي جسمه الذي يرتعش من القلق..وأقول له : "مينفعش كدا يا بابا..حرام عليك نفسك..حاول تستمتع بس..ومتشغلش نفسك باللي هيفوز." وطبعا كان كلامي هذا لا يحرك فيه شيئا وكأنه لا يسمعني.. إلي أن يرد عليّ :" اعمل ايه بس يا ولدي..دا آخر ماتش..مينفعش..لازم الأهلي يفوز"

....................


هناك شهيد النكسة

وفاقد بصره في حرب أكتوبر

يخبرونك

بابتسامة عريضة

ها قد ضحينا بأرواحنا

وأغلي أعضائنا

من أجل حديد عز!!

" من رواية..الولدان السيس المخلدون

..............................

أجترمع أبي ذكريات حرب أكتوبر..وفترة جيشه التي استمرت قرابة الست سنوات..ويحدثني بشيء من التفصيل عما حدث معهم..وخصوصا عندما حوصروا-الجيش الثالث- ويحدثني عن الرصاصة التي دخلت رجله وخرجت دون أن تترك-والحمد لله-أي إعاقة....فلا أجد في نهاية حوارنا إلا أن أختم بهذا الكلام لكي استنطقه :

" شوف يا بابا..اديك حاربت..وشوفت أيام صعبة ازاي..والبلد ولا عبّرتك..ولا سألت فيك..وشايف ازاي خيرها منهوب".

فيقول لي :" كلامك صح يا ولدي..البلد دي لو ماتت فيها رقاصة..يكتبوا عنها في صفحات وصفحات في الجرايد..لكن احنا ولا حد سائل فينا..نهبوا البلد ولاد الكلب".

......................


هذا ليس زمنك

أيها المرهف شفافية وعذوبة

هذا زمن إعدام العصافير

والأطفال والفراشات والنجوم

وأنت تدفق الحنان

صوب كائنات الله كلها

هذا ليس زمنك!!


"غادة السمان"

.............


. أبي..هذا الذي علمني ألا أكره..علمني أن أحب الناس..علمني أن أصالح الناس ..حتي لو كان الحق معي..لذلك أستغرب وأشعر بحزن بالغ عندما أجد بعض الناس ..حتي وإن كانوا مخطئين..يرون في الاعتذار ذلا ويرفضونه رفضا غريبا..ربما لأنك لست أباهم!


.أتذكرك وأنت تلاعب حفيدك (مروان)..وأنا أعرف حبك الجارف للأطفال..فما بالي بحفيدك؟!..وكيف يكون تأثرك ببكائه..وتلوم أختي دائما عندما يبكي..فلا تجد مفرا من أن تخرج به في الشارع في جولة ليلية متأخرة كي يهدأ بكاؤه..أنت ..رغم ما تعانيه من إجهاد في نهاية يومك..ورغم تعب سنواتك التي قاربت الستين..قضيتها في حل وترحال من أجل أربعة أبناء كفلت لهم مستوي معيشة وتعليم مناسب..أظن أنهم رغم مشاكلهم التي لا تنتهي..قد ساهموا ولو بجزء بسيط في رسم ابتسامة علي وجهك المضيء الذي يكسوه العرق دوما فيكسبه لمعانا يظهر ملامحك الوسيمة.. التي لم تعطني منها أي شيء!!


.أتذكرك..حين تصر علي صلة رحمك..وخصوصا أختك..فتذهب في إجازاتك القصيرة والقليلة لبلدتنا.. تزورهم وتودهم حاملا ما تستطيع من سبل المودة..معنوية قبل أن تكون مادية..أتذكرك..وأنت تعود حزينا منكسرا من هناك ..فمشاكلهم فيما بينهم لا تنتهي..وتقسم بالله أنك لن تعود لهم مرة أخري بعد يأسك من صراعاتهم علي دنيا..لاتستحق أن يتصارع عليها الغرباء..فما البال بالأقارب..أبناء الدم الواحد؟!أتذكرك وأنت تعقد العزم في أقرب مناسبة لكي تسافر مرة أخري إلي هناك..إلي أرمنت..فلا يكون مني إلا أن(أنكشك) قائلا : " ما أنت قلت يا بابا انك مش رايح البلد تاني".

فأسمعك ترد عليّ –وأنا في قمة سعادتي- بردك التلقائي :

" اعمل ايه يا درش بس..اخواتي..ولازم أشوفهم".

..............


. أتذكرك-وأنت تسافر شمالا وجنوبا- بارا بأصدقائك أيام الجيش..رغم انقضاء عشرات السنين مذ كنت معهم...فلا تمل من أن تتواصل معهم تليفونيا..وكيف عندما ذهبت لأحدهم في المنوفية فلم تجده..وانتظرته ساعات حتي أتي..فسلمت عليّه عندما رأيته فلم يتذكرك في البداية..فتهدده بأنه إذا لم يتذكرك فسوف تمشي وتتركه..ولكن كيف له أن ينساك؟!


.أتذكر قلقك المفرط عليّ .. حتي عندما كنت أذهب إلي قنا..وهي التي تبعد ثلث ساعة عن مدينتنا السكنية وتوصيني قائلا :"اركب مع سواق كبير شوية في السن يا مصطفي..لو لقيته ماشي بسرعة...قول له يهدي ..الدنيا مش هطّير"وكيف تكون وصيتك المشددة- التي حافظت علي تنفيذها في آخر سنتين لي هنا -عندما أخبرك بقدومي من أسيوط - :" اركب القطر يا ولدي..اوعي تيجي ميكروباص..أو بيجو..السواقين دول مش كويسين..وبيجروا جري علي الطريق..اسمع الكلام –الله يخليك- يا ولدي".وعندما أصل تستقبلني قائلا :" طبعا جيت عربيات؟!!..وللا جيت قطر؟!!"..أصل مفيش قطر في الوقت دا !!"فأنظر للأرض –استحياءا منك.. وأتعلل بتأخر القطارات عن المجيء في مواعيدها الرسمية وعدم وجود حجز في ذلك الوقت..فلا أجد مفرا من قولتك التي اعتدتها: " طيب قول لي علي الميعاد اللي هتسافر فيه عشان أحجز لك في القطر".


. أتذكرك..حين توصيني وأنا أستعد لسفري إلي أسيوط :" خلي بالك من نفسك يا ولدي..وشد حيلك..متشغلش نفسك بالسياسة..وملكش دعوة بالحزب الناصري وللا بالبرادعي..احنا مش هنغير الكون"..وأعرف أنك تشعر بأنك تؤذن في مالطة..لكني أعدك بحفاظي علي وصيتك!

...................

" سأحيا لأن ثمة أناسا قليلين أحب أن أبقي معهمأطول وقت ممكن

،ولأن عليّ واجبات يجب أن أؤديها،لا يعنيني إن كان للحياة معني أو لم يكن لها معني!!"


الطيب صالح

...............


.في اللحظات التي تغرقني فيها بحور الاكتئاب والإحباط..دائما أتذكر قلقي عليهما-أبي وأمي- خوفي من فقدهما يجعلني أعيش لحظات قاسية من الرعب الأسود..فتغلبني دموعي التي تتساقط في محاولة لترطيب تلك اللحظات الجافة.عندما تتمكن مني هذه الوساوس المزعجة أجدني لا أحس بدماء الحياة تسري في شراييني..ويحاصرني شعور غريب بأنه لا جدوي من حياتي.. بدونكما.أنتما الأمل الحقيقي..أنتما من يستحق أن أعيش لأجلهما.عندما أري السنين تمر..أعرف أن اللحظات التي أحاول تجنب التفكير فيها قد اقتربت..ففي كل يوم..هي أقرب من سابقه..فتكون السبب الأهم في دخولي غيابات الاكتئاب المظلمة..ومن بعدها دموع القلق المخيف تنهمر من عيوني في محاولة يائسة لتخفيف حدته فلا تفلح معه..فاستنجد بسلاحي الأخير.. النوم..علّ هواجسي تنام!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق